سيشهد شهر أيلول ولأول مرة على وداع أخير. ذاك الوداع الذي شهدت عليه التقلبات المناخية يوم شهدت عليه النفوس البشرية والبراءة الطفولية. الساعة تشير إلى الثالثة صباحاً، صوت الرعد والمطر في تلك الليلة الخميسية لم يهدأ وكأنه هو الآخر يتحسر ويتألم لذاك الوداع أو ربما كان يعلم بوقوع رحيل كارثي.
يزداد صوت الرعد ويشتد بازدياد دقات قلبها، لم تعرف النوم في تلك الليلة، لم تعرف مما كانت خائفة. أصبحا الرعب والخوف يسيطران على أنفاسها الصغيرة، عمرها حينها لم يتجاوز الخامسة عشر، انكمشت في أحضان أختها رغم صغر سنها علها تحس بقليل من الأمان أو رشفة من السكينة، لكنها لم تعرف أن بعضاً من لحظات الزمن الشتوي ستكون كافية لتشهد على رحيل محسوم بأمر سماوي.
حل اليوم الموعود، أتى الموت بردائه الأبيض وبسكونه الأبدي وجاء الشبح المخيف الذي يبكي العيون ويكسر القلوب. أخذ من بين أحضانها الصغيرة والدها الصديق والحبيب، أخذه إلى مكان مظلم وكئيب، كما تراه هي. لكن والدها كان ينتظر رحيله في سكون ولهفة، وقفت صامدة رغم ضعفها تراقب جثمانه محملا على الأكتاف.
أحست به مبتسما تحت الغطاء الأخضر وتحت الكفن الساطع البياض، حينها هدأت أعصابها الداخلية المشتعلة، ابتسمت في صمت متناسية صراخ الأهل وبكاء الأقارب رغم انكسارها فهي لم تبكِ كي لا يتألم والدها الهامد تحت الغطاء، لوحت بيديها متمنية له حياة أبدية هادئة، بعيدة عن شقاء الواقع وعن متاهات الأيام.